18 - 09 - 2024

صباحيات | روح المبادرة والتفكير التقليدي

صباحيات | روح المبادرة والتفكير التقليدي

ثمة فارق مهم بين المجتمع التقليدي الذي تتأسس فيه العلاقات على مبدأ العلاقة الشخصية والثقة وبين المجتمعات الحديثة التي تقوم العلاقات بين الأفراد فيها على أساس ما يطرح من أفكار ورؤى وما يترتب على هذه الأفكار والرؤى من مصالح. الشخصيات في المجتمع الأول، تفتقر غالباُ إلى روح المغامرة وتكون متشككة ومترددة في اتخاذ القرار وبالتالي تكون التجارب محدودة والتغيير يكون بطيئاً، وتميل إلى الجمود الذي تحسبه استقراراً. وفي المجتمع التقليدي، لا ينظر عادة إلى ما يقوله الشخص وإنما ينظر أولا كينونته، وبالتالي تضيع في هذه المجتمعات الكثير من الأفكار الريادية التي يمكن أن تغير الواقع لأنها لا تصدر من أشخاص من أهل الثقة أو الخبرة المستمدة من منصب أو نفوذ ما، ولا تعرف هذه المجتمعات عادة روح المبادرة ولا تقوم على فكرة إعطاء فرص متكافئة للأفراد وإنما الفرص تتوقف على المكانة الاجتماعية المتوارثة غالباً، والجمود الطبقي أو الاجتماعي سمة أساسية من سمات هذه المجتمعات، التي تحارب بشكل غريزي أي محاولات للتغيير وتقوم على فكرة عجز الفرد عن تغيير الواقع الذي يعيش فيه، وغالباً ما تصدر للأفراد روحاً تشعرهم باليأس من أي محاولة للتغيير أو حتى التأثير. 

فكم من المبادرات التي تنشأ من أفكار لكنها يتم وأدها بذلك السؤال التقليدي المتكرر، من المؤسسين للمبادرة؟ وهو سؤال يتنافى نصا وروحا مع فكرة المبادرة التي تقوم على أساس شق طريق جديد أو طرح طريقة جديدة في التفكير أو أسلوب جديد للتعامل مع المشكلات، هي في جانب منها أقرب إلى روح التجربة والمغامرة، منها إلى روح المؤسسة، فالسؤال عن المؤسسين يكون مقبولا أو منطقيا إذا كان المعروض أو المطروح هو مؤسسة أو كيان قائم بالفعل فتكون له هيكلية واضحة. غياب هذه الروح هو أحد الأسباب التي تفسر جمود وفشل الحياة الحزبية في مصر، إذ غالباً ما يتم اختصار الحزب في شخص رئيسه وهيكله القيادي ولا يتم التقييم على أساس البرامج أو الفاعلية والتأثير، فلا تتطور التجربة الحزبية عندنا تطورا مؤسسياً. وتسمح مثل هذه الروح بصعود أشخاص غير مؤهلين أو أكفاء وحجب أصحاب الكفاءة والمهارات العالية، لا لشيء إلا لأنه جرى تسليط الأضواء على هذا الشخصية وتلميعه وفتح الفرص والمجالات له على حساب الآخرين، أو ما يعرف بصناعة النجوم. هذا الأمر قائم أيضا في مجتمعات أخرى حديثة لكن غالبا ما تكون الفرصة متاحة للموهوبين المغمورين لشق طريقهم وتحقيق أحلامهم وطموحهم. 

والسؤال هل هذا قدر أن تظل المجتمعات التقليدية أسيرة هذه العقلية والطريقة في التفكير، أم يمكننا تغيير العقلية وطريقة التفكير خصوصا إذا نظرنا لتجربتنا وتاريخنا، قبل أن ننظر إلى تجارب مجتمعات أخرى. والتفكير في هذا الأمر على قدر كبير من الأهمية لأنه وثيق الصلة أزمة الحداثة في مجتمعاتنا. الحداثة ليست نموذجا نستورده، وإنما هي حالة لانتقال المجتمع من التفكير التقليدي والعقل التقليدي إلى التفكير الحديث، فالحداثة في أحد تعريفاتها مناقضة للتقليد والمكانة المتوارثة. ونشأت نتيجة لتغير نمط المعيشة والعلاقات نتيجة لنمو المدن الكبيرة ونشأنها. فالعلاقة في المدن لا تعتمد عادة على العلاقات في حيز اجتماعي محدود، ولا تستند إلى مكانة اجتماعية متوارثة وجامدة، وإنما هي علاقة موضوعية تعتمد على الأدوار الاجتماعية التي يلعبها الأفراد في مجتمع المدينة وتميل هذه العلاقات أن تتخذ طابعاً مؤسسيا بمرور الوقت. والأدوار تكتسب من خلال التأهيل والكفاءة والقدرة على التجديد وتغيير الواقع. فالحياة في المدن ضد الجمود وطابعها التغير المستمر. والمجتمعات الحديثة هي تلك المجتمعات التي انتصرت فيها المدينة بمنظومتها القيمية والفكرية على الريف وأنماط معيشته، وفرضت نمط علاقاتها على الريف وثقافته فحدث التغير والانتقال إلى الحداثة.

المجتمعات التقليدية أو التي تعاني أزمة في انتقالها للحداثة، هي تلك المجتمعات التي لم تتمكن فيها المدن من تحقيق انتصار على الريف، بل العكس إنها المجتمعات التي تحكمت الثقافة الريفية والتقليدية في مدنها، وحدت من فرص تطورها، فالعلاقات في المدن تقوم على العصبيات وتستند إلى القيم المتوارثة والأولية، كالعائلة أو الانتماء الديني أو المذهبي أو العرقي، فيلاحظ الدور الكبير الذي تلعبه المؤسسات الدينية والخطاب الديني في توجيه الأفراد في هذه المجتمعات، والوظائف تمنح استناداً إلى هذه الانتماءات والولاءات الأولية فتقوم بالتالي على المحسوبية لا الكفاءة أو المعارف والخبرات المكتسب إلا في الحد الأدنى الضروري. ولا يمكن لمثل هذه المجتمعات أن تعرف أي نوع من أنواع العدالة في توزيع الفرص والموارد، وينحصر الخطاب العام الداعي للحداثة فيها إلى نوع من المبارزة والصراع الممتد بين الأصالة والمعاصرة وغالباً ما تكون المعركة محسومة بسبب السلطة الاجتماعية لقيم الأصالة ومقاومة أفكار التغيير.. من المؤسف أن التغيير في مثل هذه المجتمعات لا يكون إلا من خلال الصدمات العنيفة، الأمر الذي يعبر عنه مفهوم صدمة الحداثة، وغالباً ما يتم تجسيد هذه الحداثة في مجتمعات بعينها ويتم رفضها استناداً إلى النفور من قيم وسلوكيات المجتمعات التي تم تصديرها على أنها نماذج للحداثة، ولا يتم النظر للحداثة من خلال التطور الاجتماعي والتغيير..

البديل الآخر للتطور هو إصرار ومثابرة المؤمنين بضرورة التغيير على طرح مبادرتهم وإشاعة روح المبادرة الفردية وروح التجريب والمغامرة بين الناس في المجتمع وتقديم نماذج وأساليب جديدة في التفكير والمعاملات، وعدم الاستسلام واليأس في مواجهة من يطرحون سؤال من المؤسسين، فالمبادرة، أي مبادرة في أي مجال ليس لها مؤسسون وهي في حالة سعي دائم لاكتساب أنصار ومؤيدين للفكرة ولا يبحث روادها أو مطلقوها عن أتباع ومريدين وإنما يبحثون عن عقول متحررة لا تخشى التجريب والمغامرة. ولن يحدث تغير أو انتقال في مجتمعاتنا إلا من خلال شيوع هذه الروح روح المبادرة ومحاربة التقليد والجمود.  
--------------------------------
بقلم: أشرف راضي   

مقالات اخرى للكاتب

صباحيات | روح المبادرة والتفكير التقليدي